ديداكتيك النصوص القرائية: المفهوم والأسس

 يعود الاهتمام بديداكتيك المواد والتخصصات بصفة عامة، وبديداكتيك مادة اللغة العربية بصفة خاصة، في السياق التربوي والتعليمي المغربي إلى ما شهدته المناهج والبرامج التعليمية في العقدين الأخيرين من القرن الماضي والعقد الأول من القرن الجديد، من تجديد وتطوير اقتضيا مواكبتهما بأبحاث ودراسات وأشغال تطبيقية استهدفت ما يأتي:

  • ـ الملاءمة الجيدة لهذه المناهج والبرامج مع وضعيات التدريس الجديد، والأدوار المسندة إلى كافة أطراف العملية التعليمية والتعلمية؛
  • ـ التصريف الأمثل للإجراءات والتدابير المتخذة والمقترحة لتدريس المواد والتخطيط لإنجاح رهانات المناهج والبرامج الجديدة وتحقيق أهدافها وغاياتها؛
  • ـ التمثل المناسب لفلسفة المناهج والبرامج الجديدة، والبحث في استراتيجيات تفعيلها وتجسيدها الصفي الناجح؛
  • ـ المصاحبة الدينامية للمدرسين والمؤطرين والمكونين في مهامهم التربوية، ومساعدتهم على الاضطلاع بأدوارهم وتحسين أدائهم وتدخلهم في تشخيص الصعوبات وتقديم العلاجات الضرورية لتصحيح وضعيات التعلم الجديدة وتقويمها؛
  • ـ المعالجة الناجعة للمعضلات والإشكالات الناجمة عن أنماط التجديد والتطوير والتغيير في جوهر العملية التعليمية والتعلمية، والقاضية بتحويل مراكز الاهتمام من المدرس والمادة التعليمية إلى المتعلم، ومن بيداغوجيا التلقين والأهداف إلى بيداغوجيا التلقي والكفايات؛
  • ـ النقل الديداكتيكي السليم للمعارف والقيم والمهارات والكفايات المستهدفة إلى محتويات وأنشطة مُدَرّسة في وضعيات ديداكتيكية خاصة
  • ـ التمكن من صوغ بطاقات وشبكات لتأطير أنشطة التدريس والتحكم في مقاطعه ومدخلاته وعملياته ومخرجاته؛
  • ـ التحيين المتواصل لوسائل العمل الديداكتيكي الصفي وعدته، وفق مستجدات التربية والتكوين، وبناء على التطورات الحادثة في التفاعلات الصفية، وفي سيرورات التعلم وأوضاعه؛
  • ـ التأطير العقلاني والمنهجي لفعل التدريس وسلوكه...
ديداكتيك النصوص القرائية: المفهوم والأسس
ديداكتيك النصوص القرائية: المفهوم والأسس


إن كل هذه الأهداف والمرامي وغيرها لا تجد تحقيقها وتفعيلها إلا داخل ديداكتيكا متجددة ومتفاعلة مع القضايا والإشكالات التي تفرزها المواد الدراسية، وعلى عاتق هذه الديداكتيكا توضع مهام التفكير في صيغ الإجابة النظرية والعملية عن أسئلة التدريس الجديد، وعن قلق المدرسين وتساؤلاتهم حول السبل المثلى لتيسير التعلم وتلبية حاجات المتعلمين، ومن ثمة لا تجد الديداكتيكا اكتمالها ووضوحها إلا في اشتغالها على مادة تعليمية أوتخصص من التخصصات المدرسية وارتباطها بها، ولهذا أيضا ظلت الديداكتيكا موضوع بلورة مستمرة في مختلف المواد والتخصصات، تنصبغ بالإشكالات الخاصة بكل مادة تعليمية، وتتطور داخل الأبحاث المرتبطة بمكونات المادة و مناهج تدريسها.

ديداكتيك الدرس القرائي في التعليم الثانوي

تعرض هذه المصوغة لديداكتيك الدرس القرائي في التعليم الثانوي لمادة اللغة العربية، انطلاقا من مجالات وأقطاب البحث الثلاثة لديداكتيك المواد:
 ـ المجال البيداغوجي: قطب المدرس والمتعلم؛ ونتناول فيه موضوع العقد الديداكتيكي القرائي انطلاقا من سؤال: من يقرأ؟      
 ـ المجال الابستيمولوجي: قطب المدرس والمادة التعليمية، ونعرض فيه لموضوع النقل الديداكتيكي لمفهوم النص القرائي، انطلاقا من سؤال: ماذا يقرأ؟
 ـ المجال السيكولوجي: قطب المتعلم والمادة التعليمية، ونعالج فيه موضوع تمثلات  المتعلمين الإجرائية للنشاط القرائي المستهدف، وللمسارات القرائية المقترحة، ولسيرورات تعلمهم، انطلاقا من سؤال: كيف يقرأ؟

 يحدد العقد الديداكتيكي القرائي المهام والأدوار المسندة إلى كل من المدرس والمتعلم في درس تعليم القراءة، كما يحدد الالتزامات الخاصة بإنجاز هذه المهام من قبل طرفي العملية التعليمية والتعلمية، في وضعيات تواصلية وتبادلية تستعمل فيها النصوص القرائية قاعدة لتدريب المتعلمين على اكتساب معارف ومهارات وقيم.
 ويترتب عن وضوح بنود العقد القرائي، فهم طرفي العقد للمهام والأدوار المطلوب القيام بها، وإنجاز الأنشطة القرائية المقترحة، في وضعيات ديداكتيكية مناسبة تسهم في إنجاح التعاقدات، وتيسر على طرفي العقد الوفاء بالتزاماتهما في تحقيق الكفاية القرائية المستهدفة.

 ولا نقصد بالعقد الديداكتيكي القرائي في وضعية تدريس القراءة والنصوص أوفي ديداكتيك القراءة، ذلك الميثاق القرائي القائم بين القارئ والنص، أو ما يحصل من تعاقدات صريحة أو ضمنية بين القراء والكتاب، وإنما المقصود ذلك العقد الذي يحدد طبيعة التبادلات التعليمية والتعلمية بين مدرس القراءة ومتعلم القراءة بهدف تحقيق القراءة المرغوب فيها، وتمكين متعلم القراءة من استضمار معارف ومهارات وقيم ترتبط بمجال بيداغوجي هو مجال تعليم القراءة، وبنصوص قرائية هي موضوع للتعلم.

ويمكن أن نطرح سؤال العقد الديداداكتيكي القرائي كالآتي:
من يقرأ؟ وبما أن طرفي فعل القراءة: مدرس القراءة ومتعلم القراءة، يتحددان في الوضعية الديداكتيكية من مواقعهما في شبكة العلاقات الاجتماعية والثقافية، و في المؤسسة التربوية، فإنه يمكن التمييز بين نوعين من العقود الديداكتيكية: العقد الديداكتيكي القرائي الأول يهيمن عليه نشاط مدرس القراءة، والعقد الديداكتيكي الثاني يتمركز حول نشاط متعلم القراءة.
 وتعتبر المواقع التي يحتلها طرفا القراءة في العقدين، المحدد الأساس للأدوار والوظائف والمهام القرائية المسندة إلى كل طرف

العقد الديداكتيكي القرائي المتمركز حول نشاط مدرس القراءة

  تتركز بنود هذا العقد الضمنية والصريحة على نشاط مدرس القراءة باعتباره مالكا للمعرفة القرائية ومتملكا للنص موضوع القراءة.
 وتتقابل في هذا العقد، أنشطة مدرس القراءة مع أنشطة متعلم القراءة انطلاقا من تقابل موقعي الطرفين، تقابلا ضديا، يجسد قيما ثقافية واجتماعية قائمة بدورها على بنية ثنائية تقابلية: القوي ~ الضعيف/ العالم ~ الجاهل/ الفاعل~ المنفعل/ الممتلئ ~ الفارغ...
وفي ضوء هذه المواقع المتقابلة تتحدد الأدوار المتقابلة في توزيع أنشطة القراءة بين المدرس والمتعلم.



موقع مدرس القراءة

  • ـ مالك لمفاتيح القراءة الجيدة؛
  • ـ مصدر للمعرفة القرائية؛
  • ـ منتج للقراءة؛
  • ـ فاعل في النشاط القرائي


دور مدرس القراءة

  • إيصال المعنى الجاهز إلى القارئ المتعلم؛
  • تلقين المتعلم آليات القراءة الخطية الجيدة
  •  شرح النصوص وتفسيرها، وتبليغ رسالتها؛
  • تصحيح أخطاء القراءة، ومنع الانحراف عن المعنى الثابت؛
  • تنميط النشاط القرائي في سلوكات قرائية أحادية وموحدة لدى جمهور القراء المتعلمين

 

 موقع متعلم القراءة

  1. ـ فارغ وفاقد للقدرة على القراءة؛
  2. ـ مصب للمعرفة القرائية الجاهزة؛
  3. ـ مستهلك سلبي للقراءة المُعَدًة سلفا؛
  4. ـ منفعل بقراءة المدرس الخبيرة والعارفة...

 

دور متعلم القراءة

  • ـ استقبال المعنى الجاهز وتسجيله وحفظه واستظهاره؛
  • ـ تحصيل القراءة بوصفها آلة خارجية وأداة لتعرف المعنى والدلالة عليه؛
  • ـ استهلاك المعنى الذي دل عليه المدرس، وترديد نتائج قراءته؛
  • ـ الخضوع لنظام المعنى الواحد وسلطة المدرس ووصايته؛
  • ـ تنمية ردود أفعال متطابقة ومتماثلة تجاه المقروء... 

 

وتستند بنود هذا العقد الديداكتيكي القرائي إلى نظريات التعليم التقليدية، القائمة على السلطة المعرفية للمدرس، وحضوره المركزي الطاغي في الدرس، مقابل خضوع المتعلم،وتلقيه الإكراهي للمعرفة من حيث هي معطى موضوعي خارجي وجاهز ينقل من ذات إلى ذات منظور إليها بوصفها وعاء قابلا للملء والشحن بوساطة آليات يتحكم فيها المدرس، وهذه الآليات في الدرس القرائي التقليدي هي آليات الشرح والتفسير، والتفكيك الخطي للنص المقروء جملة جملة وفقرة فقرة بحثا عن الأفكار الواضحة والمعاني المستقرة...

 وأفق هذا النشاط القرائي هو الوصول إلى مضمون واحد يوجه إليه المدرس أنظار تلامذته، ويدلهم عليه، ويروضهم على تكرار عادات وسلوكات قراءته، بتتبع خطوات محفوظة ونمطية، ينتج عنها أمران:

  1. ـ التحكم في قواعد القراءة السليمة والموضوعية بتعلم آليات وسلوكات فك مغاليق النص وشفراته اللغوية؛
  2. ـ الإمساك بالمضمون الصحيح والواحد الذي يكشف عنه النص لكل القراء، في كل الأزمنة والعصور.

 ويؤدي هذا النموذج التعاقدي القرائي إلى إنتاج قراء متعلمين بالمواصفات الآتية:
  • ـ انتقال التجربة القرائية إليهم عن طريق الترويض على تكرار التجربة القرائية النموذجية الواحدة والموحدة التي يمثلها المدرس؛
  • ـ تقوية مشاعر الخضوع لسلطة المعنى الثابت، واحتذاء النموذج الموضوعي المكتمل؛
  • ـ النفور من الاختلاف والتعدد والتنوع والاحتمال والإمكان والانفتاح، والاحتفاء بالتشابه والتطابق والتماثل؛
  • ـ تقديس النصوص وتمجيد الطرائق المغلقة والآمنة؛
  • ـ البقاء في موقع الاستهلاك والاستلاب؛ والعجز عن التحول إلى الإنتاج والإبداع؛
  • ـ حصر الممارسة القرائية التعليمية واختزالها في مجال التعرف والاستيضاح الموجه من قبل المدرس...

ويمكننا رسم التراتبية المتجهة من النص المقروء إلى القارئ المتعلم في العقد الديداكتيكي القرائي المتمركز حول نشاط مدرس القراءة في الشكل الآتي:

 
ديداكتيك النصوص القرائية: المفهوم والأسس
ديداكتيك النصوص القرائية: المفهوم والأسس

إن توسط مدرس القراءة ( القارئ الوسيط ) بين النص المقروء( موضوع تعلم القراءة ) ومتعلم القراءة ( القارئ المتعلم ) في الترسيمة السابقة، يجعل من وساطته حاجزا وحجابا بين القارئ المتعلم والنص المقروء، ويمنع الاتصال التلقائي والتفاعلي بينهما، ودور الحجاب هنا يفهم بمعنيين:

  1. ـ حراسة النص والمعنى، وإحاطتهما بسياج من المراقبة والبروتوكولات القرائية المغلقة؛
  2. ـ التحكم في حرية اتصال القارئ المتعلم بالنص والتفاعل الذاتي المباشر معه


العقد الديداكتيكي القرائي المتمركز حول نشاط متعلم القراءة

 يفرض هذا العقد الديداكتيكي القرائي إعادة توزيع الأدوار والمهام بين طرفيه: المدرس والمتعلم، وفق منظور تربوي حديث لفعلي التعليم والتعلم،قائم على إعادة الاعتبار لنشاط المتعلم، ورفض الأدوار التقابلية الضدية بين وظيفة المدرس ووظيفة المتعلم...
فمدرس القراءة في الوضع الديداكتيكي القرائي المتمحور حول المتعلم، هو عضو من أعضاء جماعة القراء المتعلمين يشاركهم تعلمهم، ويبني معهم قراءاتهم بالاشتغال على نشاطهم الذاتي، والاعتماد على مؤهلاتهم النفسية والعقلية والمعرفية والحسية، وتشغيل مواردهم وتعلماتهم القبلية وإدماجها في وضعيات جديدة مغرية بالتعلم.

 ويمكننا توزيع المواقع والأدوار الجديدة في وضعية العقد الديداكتيكي المتمركز حول نشاط متعلم القراءة في الجدول الآتي:



موقع مدرس القراءة

  1. ـ عضو في جماعة القراء المتعلمين؛
  2. ـ منشط للقراءة وميسر لتعلمها؛
  3. ـ شريك في بناء المعرفة القرائية؛
  4. ـ مصاحب ومرشد للقراء المتعلمين في مسارات تعلمهم القرائي...

 دور مدرس المادة

  1. ـ يعد وضعيات ديداكتيكية متنوعة وملائمة للنشاط القرائي المقترح؛
  2. ـ يستثمر مكتسباتهم القبلية، ويستند إلى مؤهلاتهم النفسية وقدراتهم العقلية؛    
  3. ـ يشارك تلامذته بناء قراءاتهم؛
  4. ـ ينظم خطوات قراءاتهم ومسارات تعلمهم ، ويرشدهم إلى المصادر التي يحتاجونها لتجاوز عقبات القراءة وعثراتها؛
  5. ـ يشجع التبادل والتواصل، ويحفز على إبداء الرأي والإقناع، ويتقبل الاختلاف؛
  6. ـ ينوع وضعيات تلقي النصوص، لتكريس فكرة التنوع والتعدد والاختلاف في القراءة والتأويل؛
  7. ـ يعتبر فعل القراءة جهدا ذاتيا للمتعلم، وسيرورة معرفية ومهارية ووجدانية مركبة ومتفاعلة لتكوين شخصيته المبادرة والمستقلة...

موقع متعلم القراءة

  • ـ ذات قارئة تمتلك آليات معرفية ومهارية للانخراط في نشاط قرائي مناسب ودال؛
  • ـ منتج لمعنى تعلماته القرائية؛
  • ـ متعاون مع زملائه في التبادلات القرائية؛

   دور متعلم القراءة 

  • ـ يشغل معارفه ومهاراته وخبراته الذاتية في بناء مشروعه القرائي؛
  • ـ يتعلم بجهوده الذاتية، وبمساعدة مدرس القراءة، وبتعاون مع زملائه لإنجاز الأنشطة الفردية والجماعية المطلوبة؛
  • ـ يدخل في علاقة اتصال مباشر بالنص المقروء وبمحيطه الوثائقي؛
  • ـ ينمي في شخصيته روح المبادرة ، ويثق في قدراته واجتهاده؛
  • ـ يتفاعل مع قراءات زملائه، ويتقبل آراءهم...  


يعتبر هذا العقد الديداكتيكي القرائي المتمحور حول المتعلم نموذجا ملائما للمدرسة الحديثة، ومواكبا للتطورات التي شهدتها نظريات القراءة ومناهج تحليل النصوص في علوم الأدب واللغة، وبيداغوجيا الكفايات والإدماج، ومتجاوبا مع أهداف منهاج تدريس القراءة وبرامجها، وملبيا لحاجات المتعلمين وميولهم في التدريب على الاعتماد على الذات لتحقيق شخصياتهم المستقلة، ومحققا لمبدأ التعلم الذاتي، ومبادئ الحق في الاختلاف وحرية المبادرة الشخصية والشراكة في بناء التعلمات والتدبير الديمقراطي للرأي.


 وفي هذا الوضع الجديد للذات القارئة المتعلمة، يصير النص المقروء موضوعا فعليا للتعلم، وتتحدد علاقة المتعلم به في نظام التبادلات التي ينتجها فعل القراءة النشيطة والمنهجية والمنظمة، كما يصير معنى النص ومضمونه موضوع تشكيل وبناء، ومحل احتمال واختلاف وتنوع وتعدد ونسبية، لا مجال إطلاق وأحادية، وحصيلة تفاعل بين الذات القارئة المتعلمة والنص المقروء موضوع التعلم.
 ويتوارى دور مدرس القراءة الوسيط الحاجب ومصدر المعرفة القرائية ومالك السلوك القرائي الصحيح والسليم، لصالح أدوار جديدة ومندمجة في فعل التعلم، هي أدوار التنشيط وتنمية روح الاستقلالية لدى المتعلمين، وتحفيز ردود أفعالهم الديمقراطية والتعاونية والتشاركية لتحقيق كفاياتهم القرائية المندمجة والقادرة على مواجهة وضعيات قرائية جديدة في مواقف تواصلية مغايرة.


ومن شأن هذا الوضع الجديد الذي يحول جماعة القراء المتعلمين من مجموعة خاضعة ومستسلمة لسلطة معرفة المدرس وسلطة المعنى الجاهز والمبني سلفا، إلى مجموعة متفاعلة ومتعاونة في بناء النص وموضوعه، وفي الوقت نفسه بناء الشخصية القرائية المستقلة لمتعلمي القراءة.

 ويمكننا رسم التبادلات القرائية والتفاعلات القائمة بين النص المقروء والقارئ المتعلم ومدرس القراءة في العقد الديداكتيكي القرائي المتمركز حول نشاط متعلم القراءة على الشكل الآتي:


ديداكتيك النصوص القرائية: المفهوم والأسس
ديداكتيك النصوص القرائية: المفهوم والأسس

في هذا الشكل تحدث القراءة التعلمية بوصفها نقطة التقاء وتفاوض وتعاون وتفاعل، تقطع مع الصورة التراتبية والخارجانية للقراءة في العقد الديداكتيكي القرائي التقليدي.

مستويات التفاعل في الممارسة القرائية:

يمكننا تحديد أنواع القراء المتعلمين انطلاقا من علاقاتهم بموضوع قراءاتهم: 

ـ القارئ المنفعل:


يعتبر القارئ المنفعل مقروءه واقعة مادية ملموسة ينطوي على معنى قائم في مكان ما منه، والمطلوب منه تحديد موقعه، واكتشافه، واستخراجه، وتصير علاقته بهذا المقروء علاقة خطية ذات اتجاه واحد، يذهب من النص المقروء إلى القارئ، وتتأسس العلاقة بين الذات والموضوع في هذا الاتجاه على على سلطة النص المقروء في توجيه القارئ المتعلم وتعليمه وإخضاعه، ونقل التأثير إليه مقابل انفعال القارئ المتعلم بهذا التأثير.

ويستند دور القارئ في هذا النموذج إلى نزعة طبيعية تجريبية تقوم على مبدأ موضوعية المقروء، واستبعاد الذات في فعل إنتاج المعرفة وبناء موضوعها، فالمعرفة موضوعية، والمعنى موضوعي، وفعل الذات في المعرفة ينحصر في الاكتشاف والتعرف، أي في التلقي الانفعالي.

و يقضي هذا الوضع في القراءة الانفعالية بتصور معنى المقروء كالآتي:

  • أ ـ أنه شيء ( مثله مثل باقي الأشياء التي تصادفها الذات في محيطها، وتعثر عليها دون أن يكون لها دور في إيجادها وبنائها )
  • ب ـ أنه مستقل ( له وجود مستقل عن الذات القارئة )
  • ج ـ أنه موضوعي ( قائم ومطروح في مكان ما من النص )
  • د ـ أنه قبلي ( سابق على الذات، بل على النص المقروء نفسه، فالنص وعاؤه، والذات تتلقاه)
  • ه ـ أنه في مكان ما من النص ( يحتل حيزا ما منه، وتشير إليه الكلمات والجمل وتعينه)
  • و ـ أنه واحد ( لا يحتمل إلا وجها واحدا لا تعدد فيه، ولا اختلاف، ويمكن للجميع أن يتعرف عليه)
  • ز ـ أنه نقلي ( يُروى ويُنقل ويُضبط ويُحفظ )



 والنتيجة أن وصف المعنى بهذه الأوصاف هو في الآن نفسه إنكار لفاعلية القارئ المتعلم ودورها في بناء النص، بحصر مهمته في الاستخراج والانفعال لا الفعل.


القارئ الفاعل:


يعتبر القارئ الفاعل موضوع قراءته علامة فارغة لا تحمل أي معنى موضوعي ملموس أو قائم، ومن ثمة فإن فعل قراءته فعل إيجابي واهب للمعنى ومانح للدلالة، وله كامل السلطة في ملء النص المقروء بالمعاني وإخضاعه لمراد القراءة وسلطانها.

ويستند القارئ الفاعل في هذه العلاقة بمقروئه إلى مبدأ تجريدي يعتبر العلم والمعرفة وضعا إنسانيا وبناء شعوريا خالصا، لا موضوعات خارجية ملقاة في طريق المتعلم والعالم، فالإنسان ينتج المعرفة والعلم ولا يكتشفهما في العالم الخارجي، ولهذا لا سبيل إلى حدوث النص المقروء وتحقيقه إلا بمروره عبر فعل القراءة الفاعلة التي تهبه وجوده ومعناه وحقيقته. وتذهب علاقة القارئ بالنص في هذه القراءة الفاعلة في اتجاه خطي واحد تنطلق من القارئ إلى النص، ولا نعثر في النص إلا على ما يضعه قارئه فيه، لهذا تتعدد القراءات بتعدد القراء، ومن هذا التصور صدرت مقولات من مثل: النص علامة فارغة... والقراءة جمع... والنص حمال أوجه يعطي كلا ما يريد...



 ويقضي هذا الوضع في القراءة الفاعلة بتصور المعنى بالأوصاف الآتية:

  • أ ـ أنه ذاتي تتدخل الذات في وضعه ووهبه؛
  • ب ـ أنه لا يوجد ملقى في مكان ما من النص؛
  • ج ـ أنه جمع واختلاف لا مفرد وتشابه؛
  • د ـ أنه اختراع و دراية لا اتباع و رواية.



والنتيجة أن وصف المعنى بهذه الأوصاف إنكار لأي وجود موضوعي ممكن للنص والمعنى، ومبالغة في مجال تعلم القراءة على تشجيع فوضى القراءة وانفلاتها، بدل تنظيم القراءة و تعلم الاستدلال والبرهنة بالاستناد إلى المنجزات النصية.


القارئ المتفاعل:


يعتبر القارئ المتفاعل موضوع قراءته مجالا للتفاعل والتفاوض والتعاون لإنتاج القراءة المتفاعلة، والمعنى عنده ليس واقعة مادية مطروحة في النص لا تتطلب منه إلا التعرف والاستخراج، كما أن هذا المعنى ليس وهبا مجردا أو إسقاطا تعسفيا منه عل النص، وإنما هو حدث ينبثق انبثاقا من اتصال القارئ بالنص، ومكان وجود هذا المعنى ليس هو الذات القارئة ولا النص المقروء، بل هو الفضاء الافتراضي القائم بينهما، أي عالم الصلات والعلاقات والصيرورات الإنتاجية اللامتناهية لا عالم الأماكن والوقائع( الأذهان والأعيان ).


ويستند القارئ المتفاعل في هذا الوضع إلى مبادئ التواصل والحوار والتعاون، التي تعتبر أفعال الوعي الإنساني حصيلة تضايف وتبادل قصدي، وعليه تكون القراءة تجربة شعورية حية ومعيشة تبني النص كما تبني القارئ، فالقارئ المتعلم في توجهه إلى النص لا يتوجه إليه خاوي الوفاض وفارغا مسلوبا، يتلقى وينقل وينسخ، وإنما يأتيه مزودا بمؤهلات وبسيرورات داخلية، ومحملا برصيد قبلي من المعلومات، وبقدر من المهارات والتمثلات، وتجربة ذاتية مع النصوص ومع لغاتها، وبخلفية قرائية اجتماعية وثقافية، وبرغبات وعواطف واهتمامات ومقاصد ومعتقدات وطرق لإدراك العالم وتصوره.

 وتتدخل كل هذه المعارف والمهارات والقيم في توجيه القراءة، مثلما يتدخل النص المقروء بدوره في تعديلها وتوجيهها وإعادة بنائها عبر ما يقدمه من خطاطات وعلامات وإشارات واستراتيجيات تشرك القارئ في لعبة إنتاج المعنى، وسيرورات بناء النص والقارئ معا، ومن ثمة تصير القراءة تركيبا مستمرا لتجربة تفاعلية خلاقة تحدث في التقاء الذات القارئة بالموضوع المقروء.

 ويقضي هذا الوضع في القراءة المتفاعلة إلى تصور المعنى كالآتي:

  • أ ـ أنه في موقع اللاتحديدLIEU D’ INDETERMINATION  ، أو في محل التقاء وعبور افتراضي؛
  • ب ـ أنه متولد عن اتصال القارئ بالنص، وحصيلة حوار قرائي وتعاون نصي؛
  • ج ـ أنه منبثق عن فعل القراءة المحققة له والمحققة للنص والقارئ معا، وليس سابقا عليها أوعليهما؛
  • د ـ أنه أثر ووقع وليس شيئا منقولا؛
  • و ـ أنه يُبنى ولا يُعطى؛
  • ه ـ أنه لا يستنفد من كثرة التلقي والقراءة...


والنتيجة أن وصف المعنى بهذه الأوصاف هو إعادة الاعتبار إلى أفعال الحوار والتعاون والإدماج والتفاوض والتفاعل والمشاركة، في بناء المعرفة القرائية الحوارية والتفاعلية،  ومن ثمة كان نموذج القارئ المتفاعل، مطلبا تسعى المناهج الجديدة في تدريس القراءة إلى تكوينه وتنشئة متعلمي القراءة على صورته وفي ضوئه.

Post a Comment

أحدث أقدم